فورين بوليسي: محكمةٌ ألمانيةٌ تفضحُ فظائعَ نظامِ الأسدِ وتنهي أيَّ آمالٍ في المصالحةِ الدوليةِ

نقلت “مجلة فورين بوليسي” الأميركية, ما قاله الشاهد السوري “زد” (Z) في المحكمة الألمانية التي ظلت تنظر في جرائم نظام الأسد منذ آب الماضي ببلدة كوبلنز الهادئة ضدّ اثنين من مسؤولي النظام هما “أنور رسلان وإياد الغريب”.

ووفّق ما قال الشاهد “زد”, “كانت هناك أنهار من الدماء والديدان تنضح من الجثث. ذات مرّة، لم أستطعْ أكلَ أيِّ شيء لأيام، كانت بعضُ الجثث فاسدة تماماً ووجوهها لا يمكن التعرّف عليها، كما لو تمَّ تشويهها عن عمد بمواد كيميائية، إنّ الرائحة الكريهة للجثث المتعفنة هي أكثر ما أزعجني ولا تزال حتى الآن. بقيت الرائحة في أنفي حتى بعد أنْ استحممت في المنزل”.

وكانت المحكمة تكشف شاهداً واحداً كلَّ مرّةٍ (في شهادات الناجين من التعذيب في سجون نظام الأسد، وأقارب الضحايا، والخبراء، وشهادات منتمين لنظام الأسد) لمدى جرائم نظام الأسد ضدّ الإنسانية, وقالت إنّه ولأوّلِ مرّةٍ، يمكن لغير السوريين أن يدركوا كيف أصبحت الفظائع تحت رأس نظام الأسد طريقة حياة روتينية.

ففي 9 أيلول الماضي، وهو اليوم الثلاثين من المحاكمة، كان أهم شهادات المحكمة. وذلك عندما مثُلَ أمامها متعهد دفن الموتى السوري، وهو جزء من فريق، دفَنَ عدداً لا يحصى من الجثث المشوّهة.

وصُفِت شهادتُه كيف يتمُّ إحضار الجثث ليس فقط من مديرية مخابرات أمن الدولة بقيادة رسلان في دمشق والمعروفة أيضا باسم الفرع 251، ولكن من إدارات متعدّدة في أجهزة المخابرات التابعة لنظام الأسد، بما في ذلك تلك التابعة لقوات الأسد، بين عامي 2011 و2017.

وحفاظاً على سلامة عائلته في سوريا، ظهر متعهّد دفنِ الموتى في المحكمة ووجهه مغطى، ويوصف بالشاهد “زد”.

وكان نشطاء محليون وعالميون قد أبلغوا سابقاً عن تعذيب واسع النطاق للسكان المدنيين، منهم المصوِّر العسكري الشهير، ويُدعى “قيصر”، الذي سرّب بالفعل 5 آلاف صورة كدليل على التعذيب، والقتل خارج نطاق القضاء.

وجاءت مساهمة الشاهد “زد” لترسم صورة لما تبع ذلك، فأخبر المحكمة عن الحالة التي يعثر فيها على الجثث وما يحدث لها. وقالت المجلة إنّها حصلت على نسخة كاملة من شهادته.

وأضافت أنّ “زد” كان بمثابة ترس صغير في آلية النظام الأكبر التي كانت تعتقل المتظاهرين السلميين وأيَّ شخصٍ كان إما مع المعارضة أو حتى بدا مؤيداً لها، وتعذّبهم في مراكز الاحتجاز والسجون، قبلَ إعدام الكثيرين منهم، ثم تنظم دفنهم السري. وكان “زد” جزءاً من الفصل الأخير.

وبسبب عدم قدرته على تحمّل رائحة الجثث، كان “زد” يُكلّفُ بنقلِ الذين يدفنون الجثثِ وأيضاً تدوين أعداد القتلى مقابل فرع المخابرات الذي يتمُّ إحضارُهم منه، أيّ (دوائر المخابرات الحكومية المسؤولة عن قتلِ كلٍ منهم).

وكان “زد” في السابق جزءاً من الإدارة السورية في محافظة دمشق يقوم بدفن الذين يموتون لأسباب طبيعية حتى بدأت الثورة عام 2011، وبعد أشهر قليلة من اندلاع المظاهرات المناهضة لنظام الأسد، اقترب منه ضابط مخابرات وأمره بقيادة شاحنة، بدون لوحة ترخيص لكنّها مغطاة بملصقات رأس نظام الأسد، إلى مقابر على أطراف المدينة.

في هذه الشاحنة، مع آخرين يتراوح عددهم ما بين 8 و12، كان يقود سيارته أحياناً مباشرة إلى مقبرتي نجها وقطيفة، وفي مناسبات أخرى ينتظر أولاً في مستشفيات تشرين وحرستا العسكرية. وشاهد “زد” شاحنات مبرّدة بطول 35 قدماً، متوقّفة في الخارج، محشوة بما يتراوح بين 200 و700 جثة، يرافقها ضابطٌ عسكري واحدٌ على الأقل، ويتبعها إلى المقابر.

وتذكّر”زد” أنّ المقابر بدت وكأنّها معسكرات لوحدات مختلفة من قوات الأسد، إذ يتمُّ حظرُ دخول المدنيين إليها. وكانت هناك نقطة تفتيش عند التقاطع تؤدّي إلى أحد مواقع الدفن يديرها ضابط “برتبة عقيد” للتعرّف على الشاحنات.

وفي المقابر، يقول “زد” يقوم زملاؤه، الذين يستأجرهم نظامُ الأسد أيضاً، بفتح الشاحنات المبرّدة ويلقون الجثث واحدة تلو الأخرى بطريقة غيرِ منظمة في خنادق يبلغ عمقها 6 أقدام وطولها 160 إلى 330 قدماً، وبعد حوالي 40 إلى 50 حمولة، تمتلئ هذه الحفر تماماً.

ويمضي “زد” ليقول إنّ عمليات الدفن تتمُّ 4 مرات في الأسبوع، لمدّة 6 سنوات على الأقل، وكانت آلاف الجثث تُدفن دون مراعاة لمتطلبات الكرامة الإنسانية، ولم يكن هناك أقارب ولا صلاة، فقط حفرة كبيرة بالصحراء الشاسعة في الريف.

وأكّد “زد” ما كشف عنه “قيصر”، الذي صوّر الجثث في المستشفيات العسكرية، عندما قال للمحكمة إنّ كلّ جثة بها رقم من المخابرات أو الفرع العسكري مكتوب على الجبهة والصدر.

وفي المقابر، يساعد “زد” ضباط نظام الأسد على الفور في حصر أعداد القتلى ومصدرها، وفي المحكمة سمّى الشاهد بعض أكثر أفرع المخابرات رعباً في البلاد، مثل “الخطيب” و”فرع فلسطين” ومخابرات القوات الجوية، بما في ذلك المخابرات العسكرية من جميع الإدارات التابعة لنظام الأسد.

وأشارت المجلة في مستهلّ تقريرها إلى أنّ رأس نظام الأسد قد لا يُحاكم أبداً، على الأقلّ طالما أنّ رعاته في الاحتلال الروسي لا يرغبون في استبداله، لكنّ المحاكمة الجارية في مدينة كوبلنز الهادئة تبدّد ببطء ولكن بثبات أيَّ آمال قد تكون لدى الأسد في أنّ أوروبا سوف تطبّع علاقاتها مع نظامه في أيّ وقتٍ قريب.

واختتمت فورين بوليسي أنّ المحاكمة أيضاً تمنح ملايين اللاجئين السوريين في ألمانيا، الذين عاشوا في ظلّ الخوف، أملاً من احتمال عدم إجبارهم على العودة إلى بلدانهم الأصلية، وأنْ يتفهّم مضيفوهم أخيراً ضعفَهم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى