لن يكونَ الدستورُ السوري إلا كلماتٍ على الورقِ حتى يتمَّ نقلُ السلطةِ إلى المستوى المحلي

تواجه سوريا مشاكلَ اقتصادية طويلة الأمد تفاقمت إلى حدٍّ كبير بسبب حربها التي استمرت تسع سنوات، إنّ تكلفة إعادة بناء البلاد ستكون باهظة، ولكن قبل أنْ يكون هناك أيُّ نقاش حول تخفيف العقوبات أو المساعدة الاقتصادية، يجب تنفيذ الإصلاحات السياسية والاقتصادية الرئيسية.

أولاً وقبلَ كلِّ شيء، نقلُ السلطة إلى أكثر مستويات الحكم المحلي كخطوة ضرورية لإجراء أيِّ إصلاح سياسي أو اقتصادي ذي مغزى، يمكن للحكم المحلي أنْ يعمل على التصدّي لدولة مركزية فاسدة لا تهتم بسيادة القانون أو الدستور، يجب إعطاء الأولوية للأقاليم ووضعها في قلب جهود المجتمع الدولي لدعم المحادثات الدستورية للأمم المتحدة في جنيف.

على مدى العقود العديدة الماضية، اتبع النظام الحاكم في سوريا برنامجًا اقتصاديًا بطيئًا وقصيرَ النظر مدفوعًا باحتياجات اللحظة، ويعتمد بشدة على الموارد الطبيعية، وموجهًا نحو بقاء النظام بدلاً من النمو والتنمية، تمّ تصميم هذه الإستراتيجية على غرار التجربة السوفياتية وبدعم من الاتحاد السوفياتي، لكنّ موارد سوريا النادرة وانهيار الاتحاد السوفياتي في نهاية المطاف (والخسارة كمستفيد رئيسي) أدّى إلى انكماش اقتصادي حادٍ.

منذ أواخر التسعينيات، واجهت سوريا عدم استقرار اجتماعي واقتصادي حادٍ، وهو الوضع الذي ازداد سوءًا بشكلٍ ملحوظ منذ اندلاع الحرب، حيث تعاني من ارتفاع معدلات البطالة، وزيادة كبيرة في مستويات الفقر، وتدهور مستويات المعيشة، وكلها تفاقمت بسبب جائحة COVID-19 ومع ذلك فإنّ الحقيقة هي أنّ التحديات الاقتصادية المدمّرة لسوريا هي نتيجة هيكلها السياسي الاستبدادي وطبيعة العلاقات السياسية الاقتصادية التي تطوّرت في ظلّ حكم حزب البعث.

يعاني الاقتصاد السوري من الفساد الواسع النطاق، والقمعية، وعدم الكفاءة البيروقراطية، والقطاع الزراعي غيرِ المستقر وضعيف الأداء، والشركات الحكومية غيرِ الفعّالة، ونقص الاستثمار الأجنبي، حيث أصبح الاقتصاد السوري غيرَ منتجٍ بشكل متزايد.

إنّ النظام القائم منذ تولي بشار الأسد السلطة لأوّل مرّة في عام 2000 قد أوصلنا مباشرة إلى حيث توجد سوريا اليوم، وراثة دولة تعاني من مشاكل اقتصادية وتواجه استياءً متزايدًا، بدأ بشار إصلاحات اقتصادية في أوائل العقد الأول من القرن الحالي، والتي أعقبتها إصلاحات سياسية لمواجهة خطرَ الاضطرابات.

تبنّى نظام الأسد وحزب البعث اقتصاد السوق الاجتماعي – وهو نموذج صيني يجمع من حيث المبدأ بين اقتصاد السوق والحماية الاجتماعية، وتهدف إلى إصلاح القطاع العام الذي سيظلّ صاحبُ العمل المهيمن في سوريا، مؤكّداً على الدور المهم للدولة في حماية المجتمع، ويهدف هذا النموذج إلى تحقيق نمو اقتصادي دون التضحية بالاستقرار السياسي، لكنّ افتقارَ حزب البعث للإرادة السياسية للانخراط في أيِّ إصلاح اقتصادي ذي مغزى للقطاع العام أو تضمين القطاع الخاص كمحرّك للنمو جعل النهج الصيني غيرَ عملي.

بعد الإصلاحات المزعومة ازداد الوضعُ سوءًا، زادت البطالة وبلغت ذروتها في عام 2008 عند 11 في المائة، إلى جانب ارتفاع التضخّم وارتفاع تكاليف المعيشة بشكل حادٍ، ونتيجة لذلك بين عامي 2004 و 2011 زادت معدلات الفقر بنسبة 10 في المائة، معظمُها في المناطق الريفية، حتى مع تفاقم عدم المساواة بسبب صعود نخبة جديدة غنية من رجال الأعمال، نما عدم الرضا عن الإصلاحات وبدأ المتظاهرون في السير في شوارع المدن السورية عام 2011، في البداية طالب السوريون بـ “الإصلاح السياسي والاقتصادي”، يليه “الحرية والعدالة والكرامة”، ومع ذلك واجه حزب البعث موجة الاحتجاجات بعنفٍ وحشي أدّى إلى قتل وتشويه عددٍ لا يحصى من المدنيين، لم يمضِ وقتٌ طويل حتى بدأ المتظاهرون يطالبون بإسقاط نظام الأسد.

تمّ إجراء استفتاء دستوري في 26 شباط 2012، كخطوة تجميلية لإرضاء السكان، ومع ذلك كان التغيير الأكثر أهمية هو النهاية النظرية للاحتكار السياسي لحزب البعث الحاكم دون وضع تدابير لإصلاح المشهد السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي، في الواقع تضمّن الدستورُ بالفعل العديد من المواد التي إذا تمّ تطبيقها بشكل صحيح من شأنها تحسين أداء الاقتصاد، ومع ذلك تحت حكم البعث كان الدستور مجرد كلمات على الورق وفشلَ في تحقيق أهداف ظاهرية تتراوح من ضمان الحريات الاقتصادية إلى حرية الرأي والتعبير.

منذ عام 2012، انتقل الوضع من سيّئ إلى أسوأ، تمّ إنشاء المزيد من الشركات الحكومية التي تعمل من خلال مؤسسات غير رسمية يتمّ فرضُها إما من قِبل الجهات الفاعلة غيرِ الرسمية (مثل عائلة مخلوف) أو من قِبَل المنظمات الرسمية، مثل الوكالات الرسمية التي تعمل بطرقٍ غيرِ مشروعة (على سبيل المثال ، الواسطة أو الروابط الشخصية)، لكنْ ما يسمى بالأعمال الحكومية ليست ظاهرة جديدة في سوريا، بسبب ندرة الموارد الاقتصادية ولا سيما السلع المادية مثل النفط والتحويلات المالية، حول نظام الأسد سيطرته السياسية على الاقتصاد منذ عقود نحو موارد اقتصادية غيرِ مباشرة مثل تأسيس الشركات الحكومية من خلال مؤسسات عائلية غيرِ رسمية (مثل سيريتل) مملوكة لرامي مخلوف ابن خال بشار الأول)، كانت هذه المؤسسات غيرِ الرسمية – بما في ذلك شبكات العملاء المستفيدين – أكثر تأثيراً من تلك الرسمية في تشكيل الاقتصاد السوري.

ومع زيادة العقوبات الدولية على مدى السنوات التسع الماضية، استفاد عددٌ أكبرُ من المقرّبين من النظام مثل رجال الأعمال سامر فوز وإخوان قاطرجي من اقتصاد الحرب من خلال ممارسات غيرِ مشروعة مثل التهريب وإثراء أنفسهم وتقديم مزايا قصيرة المدى للنظام على حساب من الجمهور.

إنّ اللجان الدستورية اليوم لديها مهمّة ساحقة في معالجة العديد من المشاكل الموضّحة أعلاه، بما في ذلك المبادئ الاقتصادية وفصل السلطات، والتي تمّ تحديدُها في الدستور الحالي ولكن لم يتمّ تطبيقها عملياً، ببساطة ليس هناك ما يضمن تطبيق هذه القوانين والمبادئ، هناك مقاومة قوية لاحترام الدستورية وتنفيذ دستور 2012، سواء من داخل نظام الأسد أو من فاعلين خارجه، وهذا نتيجة التسوية السياسية في سوريا وتوزيع السلطة التنظيمية، بما في ذلك هيكل النظام وشبكات العملاء المستفيدين، والتي تكون “شخصية” ولا تستند إلى عقود رسمية يمكن إنفاذُها بشكل قانوني.

يعاني الاقتصاد السياسي في سوريا من قضيتين أساسيتين، أولاً يتألف نظام الأسد – نسخ النموذج السوفياتي – من عدّة هياكل هرمية متداخلة مصمّمة للحفاظ على الاستقرار السياسي، تسمح هذه الهياكل من أعلى إلى أسفل للقيادة بالتحكم في جميع جوانب البلاد من المستوى الإقليمي إلى مستوى القرية بما في ذلك القضاء، هذا النظام قائمٌ منذ عهد حافظ الأسد ولا يفضي إلى الإصلاح السياسي أو الاقتصادي، جهود تنفيذ التغييرات محظورة أو مقيّدة بشدّة على مستويات مختلفة، بدلاً من ذلك هذا التكوين للسلطة جيد للقمع والحفاظ على دعم الدولة والسلطة.

ثانيًا تؤثر المركزية المفرطة سلبًا على أداء وكفاءة البيروقراطية، في سوريا يساهم الخوفُ من العقاب في قيام المؤسسات باتباع نهج أكثر تحفظًا، وبالفعل فإنّ المستوى الأدنى من الحكومة لديه اهتمامٌ ضئيل بأنْ يكونَ منتجًا، إنّ مطالبة التكنوقراط بالتفاوض مع المسؤولين الأجانب أو الجهات الفاعلة المحلية لزيادة كفاءة وجودة البيروقراطية سيعرّضهم لخطر العقاب إذا لم يحقّقوا النتائج المتوقعة، علاوة على ذلك فإنّ النخب السياسية هي جزءٌ من الشبكات الاقتصادية أو الباحثين عن الريع (الانخراط في أنشطة فاسدة لكسب الثروة دونَ أي مساهمة في الإنتاجية)، وبالتالي ليس لديهم دافع لخلق ساحة لعب عادلة للجهات الفاعلة الأخرى.

أدّت هاتان المسألتان إلى أوجه قصور في الهيكل السياسي السوري، أي احتكار الحزب الحاكم لتوزيع السلطة، بالنظر إلى هيكل نظام الأسد وطبيعة التسوية السياسية في سوريا، فإنّ الطريقة الوحيدة التي يمكن من خلالها تطبيق الدستور هي عن طريق تحويل التوزيع الداخلي للسلطة إلى أسفل وبناءِ الثقة، حالياً نظام الأسد موجود في حالة من جنون الارتياب الشديد ويركّز على الهدف الأساسي للسيطرة على البلاد، إنّها تكافئ الولاء بدلاً من النتائج بالوصول إلى الموارد، ومع ذلك فإنّ النموذج السياسي الأفضل (وبالتالي الاقتصادي) يتطلّب من الأسد وكبار القادة تفويض السلطة والاستقلالية إلى مستويات أدنى من الحكم للاستفادة من المبادرات ومكافأة أولئك الذين يتابعونها بناءً على النتائج، في حين أنّ بذور هذا النموذج قد تمّ زرعها بالفعل في قانون الإدارة المحلية (القانون 107/2011) ، الذي يركّز على تفويض السلطة وإنشاء وحدات إدارية، لم يتمّ تنفيذ هذا القانون حتى الآن.

في الواقع، لن يكونَ من السهل الحصولُ على مثل هذا التنازل من النظام، ومع ذلك وبالنظر إلى الوضع الاقتصادي والسياسي الحالي بالإضافة إلى الإطار القانوني الحالي في سوريا، والذي يتوخّى الحكم اللامركزي، قد تكون هناك نافذة لتنفيذ مثل هذا الإصلاح، إن روسيا لا تدعم فقط العملية الدستورية السورية، ولكنّها تدفع أيضاً مسؤولي نظام الأسد للجلوس والتفاوض، إنّ رفع العقوبات الدولية عن النظام السوري يعتمد على نتيجة هذه العملية.

ومع تدمير ما يقرب من 65 في المائة من البنية التحتية لسوريا منذ بداية الثورة، تركّز روسيا على تأمين الاستثمار الأجنبي المباشر لتمويل إعادة الإعمار، علاوة على ذلك فإنّ الوضع الاقتصادي في سوريا يزداد سوءًا بشكل متزايد، حيث يعاني من تأثير الأزمة في لبنان المجاور، وتداعيات جائحة COVID-19، والأمل أنْ تدفع كل هذه العوامل النظام إلى أنْ يأخذ عملية جنيف على محمل الجدّ.

تمّ تصميم مفهوم الفصل بين السلطات في الدستور لعرقلة تجميع السلطة السياسية والاقتصادية، سيستمر الاقتصاد السوري في المعاناة حتى يتمّ تقييد السلطة السياسية وتوجيهها نحو أهداف محدودة، والأمل هو أنّ يساعد الدستور الجديد، إذا ما تمّ تطبيقه بجدّية وبشكل صحيح، سوريا على الانتقال من دولة تعتمد مؤسساتها وقواعدها وسياساتها على إملاءات قيادتها إلى دولة يتمّ فيها إعادة هيكلة توزيع السلطة بحيث تكون المستويات الدنيا يمكن للحكومة أنْ تضطلع بدور أكبر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى