القصة الكاملة لـ “عبد الباسط الساروت”.. حارس الثورة السورية وبلبلها الذي رحل باكراً (فيديو)

ما أقل الأسماء التي تشارك في ثورات الشعوب وتبقى على مثاليتها أو تبقى أيقونةً لها، فمسار الأحداث والوقائع والتطورات كثيراً ما يغيّر صور الأشخاص ويبدل نظرة الناس إليهم، أو لعل الزمن يجعلهم في طيّ النسيان، أو يدخلهم في بوابة الخلود.

فمنذ بداية الثورة السورية ولا يزال الطفل “حمزة الخطيب” باقياً كأحد أهم أيقوناتها، وكذلك المنشد “إبراهيم القاشوش”، والمخرج “باسل شحادة”، والناشطان الإعلاميَان “رائد الفارس” و”حمود جنيد” في كفرنبل، والآن “عبد الباسط الساروت”.

“الساروت” هو الشخصية المحبوبة والمثيرة للجدل التي صنّفت في خانة “البطل الشعبي”، فالبطولة في البلاغة هي غلبة يرتفع بها البطل عمن حوله من الناس العاديين ارتفاعاً يملأ نفوسهم له إجلالاً وإكباراً، وهذا التعبير أخذ حيزاً في التعليقات على خبر استشهاد “الساروت” في ساحة المواجهة مع نظام “بشار الأسد” المجرم.

حيث لم يكن تحوّل “الساروت” إلى بطلٍ شعبيٍّ أو أسطورةٍ من نتاجات المخيّلة الشعبية التي تضفي على أبطالها صفاتٍ خارقةً فوق بشريةٍ غير موجودةٍ فيهم أصلاً.

ولم يقسر اسم “الساروت” المخيلةَ الشعبية السورية على ابتكار الحكايا المتخيلة عنه، ولكنه ببساطةٍ غير متوقعةٍ من شابٍّ في عمره قدَّم من صفاته وسلوكه للأسطورة كلّ عناصرها لتتكامل بصفتها أسطورة، فظهر “الساروت” بوجهه المكشوف حين كانت الأكثرية تخفي هويّاتها.

حتى أنّه تواجد في كلّ الأماكن الخطرة التي لم يتخيّل أحدٌ يومها ظهوره فيها، وغنّى في بابا عمرو حين كان الحيّ محاصراً، ودخل إلى حمص المحاصرة حين كان الآخرون يفكرون ويبحثون عن طريقةٍ لمغادرتها.

وفي حصار المدينة أكل كغيره أوراق الشجر والزيتون المرّ، وعندما غادرها راح يعمل وأصدقاؤه بقطاف الزيتون كي يؤمّنوا كفاف يومهم، وكان في كلّ لحظةٍ في الثورة وحتى اليوم يجاور الموت ولا يهابه، بل وفي الكثير من المواقف كان يتجرّأ عليه ويتحارَشُه بشجاعةٍ غير مألوفة.

فـ “الساروت” يمثّل نموذجاً خاصّاً قد يكون الأصدق بين جميع النماذج التي عرفتها الثورة السورية، نموذج الشابّ البسيط الذي انخرط في الثورة بدافع من إحساسه الفطري والطبيعي بحقّه في أن يعيش بحرية وكرامة وحسب.

حيث أنّه لا يملك رؤية ولا نظرية ولا يعمل وفق حسابات الساسة والمؤدلجين وأصحاب المشاريع، يصبح جزءاً منهم أحياناً، ولكن لأنّ الخيارات أمامه معدومة، “الساروت” هو نفسه البطل الشعبي الذي فتن أرواحنا عبر التاريخ بشبابه وفتوته ونبله وغيريته، والأهم بمنبته الذي ينتمي إليه معظمنا.

البطولة الشعبية نجدها جلية في سيرة “الساروت”، بل هو يمتلك أكثر من بطولة واحدة، حيث كان قد ولد “الساروت” في عام 1992 من عائلة هاجرت من الجولان واستقرت في حي البياضة بمدينة حمص.

وكان يُعد ثاني أفضل حارس مرمى في قارة آسيا، وحارس المرمى الأساسي في منتخب سوريا للشباب وحارس نادي الكرامة الحمصي، وكان طريقه ممهداً ليكون حارس المنتخب الأول وحتى الاحتراف في أندية أوروبية، ولكنه قرّر التخلي عن مجد الكرة في مقابل الوقوف في مواجهة جيش الأسد دفاعاً عن مدينته وحيّه.

وعدا عن كونه رياضياً محترفاً، أعاد اكتشاف موهبة أخرى لديه خلال مشاركته في التظاهرات والاحتجاجات الأسبوعية وهي الهتاف وتأليف الأغاني وغنائها، ويمكن لمس هذه الموهبة عن الاستماع لأنشودة “جنة جنة جنة يا وطنّا” بصوته.

فلقب بـ “بلبل الثورة ومنشدها” عدا عن لقبه “حارس الثورة”، حين برز اسمه وأصبح السوريون وغير السوريين يردّدون هتافاته وأناشيده، وقبل أن يعلنه نظام الأسد كمطلوب ومطارد، سارع الاتحاد الرياضي العام في سورية إلى فصله ومنعه من اللعب مدى الحياة، وكان تعليقه الساخر على ذلك: “ضحينا بحياتنا والناس تموت وهم يسألون عن الاتحاد الرياضي، هل يضمنون أنفسهم واتحادهم الرياضي؟”.

وفي كانون الأول 2011 تعرّض “الساروت” لمحاولة اغتيال نجا منها بأعجوبة وأصيب في ساقه بطلقات عديدة، وظهر في تسجيل وهو يعاود الذهاب إلى المظاهرة وساقه لم تتعاف بعد.

ولعل الأرجح أنّ نظام الأسد كان يخاف المنشدين أكثر من الرصاص، فهو اقتلع حنجرة “إبراهيم القاشوش”، ولم يتردد في رصد مكافأة مقدارها مليوني ليرة سورية لمن يساعد في القبض على “الساروت”، وحاول اغتياله أكثر من مرّة.

وبالتوازي مع محاولات النظام لجم صوت “الساروت” المدوّي، كان النظام يبيد المواطنين بدءاً من مجزرة الخالدية في شباط 2012 والتي أسفرت عن أكثر من 300 قتيلٍ وحملة بابا عمرو وغيرها، وكان لا بدّ حمل السلاح للمواجهة والدفاع عن النفس، مع التذكير بأنّ النظام كان هدفه منذ البداية عسكرة الثورة.

لم يكن “الساروت” قبل الثورة السورية جندياً أو مقاتلاً، لكن الواقع يغيّر مسار الأمور، يجعل عاشق كرة القدم من حملة البندقية، فالشاب الذي كان حارس مرمى سرعان ما أسس كتيبة “شهداء البياضة” مع إخوانه من الحي نفسه لحماية المدينة.

وخلال المواجهات استشهد ثلاثة من أخواله، وأربعة من إخوته: “وليد” الذي استشهد في الخالدية العام 2011، محمد الذي استشهد أوائل العام 2013، و”أحمد” و”عبد الله” اللذان استشهدا في 9 كانون الثاني 2014 في معركة المطاحن الشهيرة، حيث كان قد حاول “الساروت” حينها مع كتيبته أن يفكّ حصار حمص من الداخل، وكانوا قد عبروا إلى منطقة المطاحن التي كانت تسيطر عليها قوات الأسد ليجلبوا الطحين للمحاصرين، ليستشهد أكثر من 40 فرداً منهم ومن بينهم إخوته.

هكذا بدأ “الساروت” يقاتل بالكلمة والرصاص والمعنى، وكان قد صوّر المخرج “طلال ديركي” فليماً عنه بعنوان “العودة إلى حمص”، حيث عالج تطوّر الثورة السورية التي بدأت بمظاهرات سلمية مناهضة للنظام في منتصف شهر آذار 2011، لتتحوّل بعد أشهر إلى حربٍ همحجية شنّها نظام الأسد وأودى بحياة مئات الآلاف من المواطنين المدنيين.

وكان قد استعمل المخرج “ديركي” الأسلوب الروائي ليوثّق قصة “الساروت” الرياضي الثوري الذي تخلّى عن الحراك السلمي وحمل السلاح، كالآلاف غيره ضد جيش الأسد.

في الثامن من أيار عام 2014 خرج “الساروت” مع بقية رفاقه من مدينة حمص القديمة إلى منطقة ريف حمص الشمالي بعد فرض نظام الأسد أول اتفاقات التهجير القسرية بحقّ الثائرين عليه، وفي العام 2016 خرج “الساروت” من ريف حمص الشمالي إلى مدينة إدلب، ليشارك في التظاهرات التي انطلقت هناك من جديد.

حيث طالب “الساروت” بتوحيد فصائل الثورة السورية العسكرية، وكان من المندّدين بتهجير نظام الأسد للمدنيين من مدينة حلب، وفي العام 2018 ظهر “الساروت” في تسجيل مصوّر خلال المعارك في جنوبي إدلب، وسرعان ما انضم فصيله “لواء حمص القديمة” إلى فصيل “جيش العزة”.

وكان “الساروت” قد أصيب في يده وتعرض لمحاولة اغتيال في شباط الماضي أثناء تواجده في مدينة معرة النعمان جنوب إدلب، وبمعنى آخر كان “الساروت” على علاقة تراجيدية مع الموت، بين أكثر من إصابة وأكثر من محاولة اغتيال، وأكثر من حصار، ومن عائلة أبادها نظام الأسد عن بكرة أبيها، ومن مدينة أزيلت معظم معالمها، ومن مجتمع ثوري هجر بغالبيته.

وبعد كرة القدم والهتاف والأناشيد والحصارات ومحاولات الاغتيال، استشهد “بلبل الثورة” في معارك ريف حماة الأخيرة، “حتى نارك جنة” والتي لطالما ردّد “عبد الباسط الساروت” هذه الجملة حتى ارتبطت به.

حيث كأنّ البلادَ بأكملها أصبحت جحيم الآخرة، جحيم لم يتركه الشاب الثائر الأيقونة، بعدما تركه ملايين السوريين، بحثاً عن حياة آمنة.

وفي مشهد الوداع لا يسعنا إلا القول، لقد تظاهر “الساروت” وأنشد وقاتل وأصيب وكان آخر المغادرين من مدينته حمص، ولم يلجأ للسكن في الفنادق، ولم يختر الهجرة إلى أوروبا، ولم يصبح مليونيراً، برغم المصاب الذي حلّ بإخوته وعائلته، بقي في ساحات القتال منشداً ثائراً وحاملاً البندقية في آن معاً بوجه نظام الأسد المجرم، وهذا مشهد نادر الحدوث.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى