خيمةٌ أصبحتْ مدرسةً للأطفالِ الفارّين من الحربِ

لا يستطيع الأطفال الذين أجبروا على تركِ منازلِهم تذكّرَ حياة طبيعية في شمال غرب سوريا، يحاول المعلمون المتطوعون منحَهم واحدة، مدرسة المخيم ليست سوى خيمة باردة وضيقة، وأرضيتها مغطاة بسجادة يصعب صنعُ نمطها المعقّد تحت حشدٍ من الطلاب الراكعين، الجدران صفائح بلاستيكية، لا توجد مكاتب، ولا كراسي، ولا مرحاض، وبالكاد توجد كتبٌ.

ولكن هناك لوحة بيضاء، كتب أحدُ المدرسين سلسلة من مسائل الجمع مثل: 687 + 536. 450 + 276. 265 + 603. الفتياتُ الصغيرات ذوات الشعر المجدّل والمراهقات في الحجاب يثنينَ رؤوسهن في تركيز، ويلتفوا على أوراق دفتر الملاحظات المستعارة، تضمّ المدرسة في مخيم للنازحين في شمال غرب سوريا حوالي 60 طالباً، فتىً وفتاة تتراوح أعمارهم بين 4 و14 عاماً خلال الأشهر الثلاثة الماضية.

يركضوا هؤلاء الأطفال بحياتهم هرباً من قواتِ النظام وحلفائهم الروس الذين يقتحمون محافظةَ إدلبَ، الملاذَ الأخير للقوات المناهضة للحكومة، في حملةٍ لاستعادتها بعد تسعِ سنوات من الحرب الأهلية، كان شمال غرب سوريا في حالة تجاوزت حالة الطوارئ لفترة طويلة لدرجة أنّ معظم الأطفال لا يتذكّرون كيف يُفترضُ أنْ تكونَ الحياة الطبيعية، المأوى والغذاء والدواء والدفء لا يوجد ما يكفي من أيٍّ منها في إدلب، حيث لم يفعلْ وقفُ إطلاق النار الكثيرَ لإعادة الناس إلى منازلهم.

ولكنّ عمال الإغاثة استمرّوا في محاولتِهم لتأمينِ الخيام بالمياه والطعام والوقود، استمرّ الأطباء والممرضات في تقديم الرعاية، وداخل الخيمة الباردة في مخيم النازحين خارج قرية بهورا الصغيرة، يقدّمُ أربعةُ معلمين كلَّ ما في وسعهم: بضعُ ساعاتِ من التعليم، وميضٌ من الحياة الطبيعية، تُسمّى مدرستُهم مدرسة العودة.

قال “قاسم الأحمد” (30 سنة) مدرّس في المدرسة موضّحاً الاسمَ في مقابلة هاتفية: “نأمل أنْ نعودَ إلى الوطن قريباً”، هربَ من قريته بالقرب من حلب قبلَ شهرين، مثلَ معظمِ الأطفال الذين يتجمّعون على السجادة، ليس لديه الآن مكانٌ يذهب إليه، العديد من الطلاب الذين حملتْ عائلاتهم أمتعتها وتحرّكت مرتين أو ثلاث أو أربع مرّات أو أكثرَ للهروب من المعارك المتتالية، لم يلتحقوا بالمدارس بانتظامٍ منذ سنوات، البعضُ لم يكن على الإطلاق، قدّرَ “السيد أحمد” أنّ حوالي 40 بالمائة من طلابه أمّيون.

مجرد الذهاب إلى المدرسة يمكن أنْ يكونَ صعوبةٌ في المخيم، يحتاج العديدُ من الآباء إلى أطفالهم لجمعِ الأخشاب لحرقها أو لكسبِ دخلٍ إضافي عن طريق القيام بوظائف غريبة، وغالباً ما تغادر العائلاتُ المخيمَ بحثاً عن مأوى أفضلَ، بلا جذور دائمة في وضع لا يمكن لأحد أنْ يقولَ فيه ما هي الأماكن الآمنة أو إلى متى ستستمر السلامة.

على الرغم من وقّفِ إطلاق النار فإنّ المخيمات لا توفّر سوى القليل من الأمن، تراجعتْ درجات الحرارة في فصل الشتاء كثيراً، لكن ما لا يقلّ عن اثني عشر طفلاً تجمّدوا حتى الموتِ في درجات الحرارة الليلية التي ارتفعتْ قليلاً الشهرَ الماضي، وتقول منظمات الإغاثة إنّ حوالي ربعَ النازحين يعيشون على وجبةٍ واحدة في اليوم.

قال “كريستيان رايندرز” مدير العمليات في شمال غرب سوريا: إنّ “أعضاء فريق أطباء بلا حدود أفادوا برؤية أشخاصٍ في المخيمات يغلون أوراقاً لتناول وجبات الطعام”، وبّما أنّ القنابل جعلت 84 مركزاً طبياً خارج الخدمة، فإنّ تلك المراكز المتبقية تتأرجح تحت عبء آلاف المرضى الإضافيين، ونقصِ الإمدادات وجراحاتِ الصدمات المتتالية.

أرسل بعضُ العاملين في المجال الطبي عائلاتهم شمالاً أمامهم، بينما واصلوا هم العملَ ولا يعرفون متى أو إذا سيرونهم مرّة أخرى، وقال “الدكتور زاهر حناك” أخصائي المسالك البولية الذي تحوّل إلى جراحٍ في مستشفى إدلب، والذي كان عليه أنْ يترك مستشفاه السابق بعد أنْ أصيبَ في غارة جويّة: “أعتقد أنّ كلّ يوم قد يكون الوداعَ الأخيرَ”، طوالَ رحلته اليومية يتدافعُ على الطرق مع الكثير من العائلات التي تهرب بالشاحنات والسيارات والدرّاجات النارية وعلى الأقدام، يخشى “الدكتور حناك” من حدوث شيء ما لزوجته وأطفاله قبلَ أنْ يتمكّن من العودة، وقال: “عندما أصل إلى المستشفى فإنّ أولَ شيء أفعله هو الاتصال بالمنزل للتحقّق من سلامة عائلتي”.

كما تمّ استهدافُ المدارس من قِبَل الطيران الروسي والسوري، تضرّرت أكثرُ من 180 مدرسة منها دمّرت وأخرى تحوّلت إلى مراكز إيواء للنازحين، قالت منظمات الإغاثة المحلية في يوم الأول من شباط إنّ الغارات الجويٍة أصابت ثماني مدارس حول مدينة إدلب مما أدّى إلى مقتل ثلاثة معلمين وطالب، وأصيب ستة طلاب آخرين على الأقل أثناء محاولتهم الإخلاء، ولكنْ في كلِّ مكان يوجد أطفالٌ بحاجة إلى التعليم.

كان “الأستاذ أحمد” مدرّساً في مدرسة العودة يخطّط ذاتَ مرّةٍ لتدريس الفلسفة لطلاب الكلية، سيكون أمراً مذهلاً إذا استطاع جذب انتباه تلاميذه الصغار، حيث أنّ عوامل التشتيت كثيرةٌ منها: أصابع باردة، وجبة طعام واحدة في اليوم، طائرات حربية تحلّق فوقهم، وهذا إذا جاء الأطفال إلى المدرسة على الإطلاق، وقال: “لقد بذلتُ الكثير من الجهد ولكن بدون نتائج تقريباً، الطلاب يشعر معظمُهم بالخوف في كلِّ مرّةٍ يسمعون فيها أصوات الطائرات، ليس لدينا أيٍُ شيء يشتّت انتباههم أو نعلّمهم به، لدينا هذه الخيمة فقط”.

بالنسبة للسيد أحمد وزوجته “ملاك” (28 سنة) وابنهما الصغير وابنتهما، كان لديهم منزلٌ في قرية العيس خارج حلب حتى فرّوا قبل شهرين، ومنذ ذلك الحين عاشوا في مبنى مهجور متسرّب بالقرب من المخيم، يتشاركون فيه غرفةً واحدة مع 17 شخصاً آخر، يعيش بعضُ النازحين في خيامٍ لكن ينام الكثيرون في مبانٍ نصفِ مجهّزةٍ، تحت أشجار الزيتون، أو في بعض الحالات تحت أيِّ شيء، كشفت دراسة استقصائية للجنة الإنقاذ الدولية أنّ الخيام على طول الحدود التركية، التي يتمُّ إغلاقُها ضدّ اللاجئين تحتوي في المتوسط تسعةَ أشخاص، يتجمّع النازحون 20 أو 30 في غرفةٍ في منازل الأقارب البعيدين، والحمامات العامة، والمدارس والمباني المكتبية الفارغة.

عندما بدأتْ الانتفاضة السورية في عام 2011، كان “السيد أحمد” يدرس في كلية الفلسفة في السنة الرابعة في الجامعة، مع اندلاع الحرب أجْبِر على ترك الجامعة، وبدأ التدريس في مدرسة عامة، حيث تعملُ زوجته أيضاً، بمجرد أنْ وجدت عائلة أحمد أسرتهم المشرّدة قرّروا أنّ أفضل استخدام لوقتهم هو الاستمرار في فعل ما يعرفونه، بالعمل مع معلمين من قريتهم القديمة.

في الداخل يقارن المعلمون الطلاب الذين لا يستطيعون القراءة أو الكتابة بطلاب أكثر تقدماً، على أمل أنْ يتعلّموا من بعضهم، العمرُ لم يعدْ يتوافق مع المستوى، يبلغ عمرُ بعض طلاب الصف الرابع 14 عاماً، تقوم زوجة أحمد بتعليم الأطفال في سن 6 و7 سنوات بالاعتماد على التطبيقات التعليمية البسيطة التي تقوم بتنزيلها على هاتف زوجها المحمول.

يعمل المعلمون على نقلِ الأساسيات مثل الحروف والأرقام العربية، ويطلبون من الذين لديهم دفاترَ ملاحظات أنْ يمزّقوا بعضَ الأوراق لمشاركتها مع أولئك الذين ليس لديهم أيُّ شيء، وقالت: “ليس لدينا شيءٌ للترفيه عن هؤلاء الطلاب – لا قصص، لا رسوم، لا لوحات، أعطيهم الأساسيات فقط”.

يستمر الفصل لبضعِ ساعات فقط، من الساعة 8 صباحاً حتى 10:30 أو 11 صباحاً، ويتكوّن الواجب المنزلي أحياناً من نسخ جملة واحدة، في العطلة يلعب الطلاب في الساحة الموحلة بين الخيام، اعتاد “السيد أحمد” على مكافأة الطلاب الأقوياء بهدايا صغيرة – الألعاب الصغيرة والقرطاسية والأقلام، الآن حتى هذا يتجاوز إمكانياته.

وقال: “أحاول أنْ أعِدَهم ببعض الحوافز رغم أنّني أعلم أنّه من الصعب الوفاء بوعود من هذا القبيل، بصراحة في بعض الأحيان لا أملك المال لشراء الخبز”، تبقى زوجته تتمنى خيمة أو أي شيء للهروب من غرفتهم المشتركة والمزدحمة لدرجة أنّها بالكاد تستطيع الاستلقاء للنوم، إضافة إلى أمنيتها في الحصول على هاتف محمول يمكنُها استخدامُه للبقاء على اتصال مع إخوتها وأختها، قال “أحمد”: “أظلّ أعدها بذلك، لكنّه اعترف أنّه ليس لديه أملٌ في أنْ يكون قادراً على تحمّل التكاليف أيضاً”، في اليوم التالي كانت عائلة “أحمد” موجودةً لفتح المدرسة في الثامنة صباحاً، ولم يكنْ هناك شيءٌ آخر يمكن القيامُ به.

لقراءة المقال الأصلي (اضغط هنا)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى