كيف أصبحَ هذا الفصلُ الختامي من حربِ سوريا الأكثرَ وحشيةً

إدلب – سوريا، أمضى “ماهر شردان” وجيرانُه الوقت بعد ظهر اليوم على قمة التلال، في بقعة شهيرة تطلُّ على مزارع خصبة وبلدات في ضواحي المدينة – وفي الأفق، تخوض جيوشُ عدّةِ دولٍ معركةً شرسة، كانوا يشاهدون صراعاً محورياً حول مصير إدلب، بينما كانوا يشربون الشاي ويدخنون السجائر.

إدلب منطقةٌ غمرتها بعضُ أعمال العنف الأكثر تدميراً في حرب سوريا التي استمرت تسع سنوات، كانت ساحة المعركة في الأفق حول مدينة سراقب، وهي بلدةٌ تقع بالقرب من تقاطع الطرق السريعة الإستراتيجية، مثل العديد من الأماكن في إدلب التي تمّ تهجير أهلها، وكان المقاتلون – الموالون إما لسوريا أو لتركيا أو لروسيا يقصفون البلدة بشدّة.

نفّذت الطائرات الحربية غاراتٍ جويّة، وتصاعدت أعمدةٌ رمادية شاهقة في الأفق، قال “شردان”: “هذا كلُّ يوم، مع ارتفاع صوت القصف، أنام مع القصف، واستيقظ على القصف”، في حرب تتألف من فصول لا تُعدّ ولا تُحصى، كان القتال في إدلب والمناطق المحيطة بها وحشياً بشكلٍ فردي، حيث انتشر الدمار على مساحة كبيرة من سوريا بينما اقتلع ما يقرب من مليون من مواطنيها، وقد زاد العنفُ الناتج عن معارك الكرّ والفرّ التي جعلت من مدينة سراقب خاليةً ومهجورة.

إنّ طبيعة المواجهة في المحافظة بين قوات النظام ومقاتلي المعارضة، جعلت إدلب لغزاً مخيفاً ومأساوياً بشكلٍ خاص، لم يمضِ وقتٌ طويل بعد مشاهدة “شردان” وجيرانهِ معركةَ سراقب حتى تباطأ القتال، حيث اتفقت روسيا وتركيا على وقف إطلاق النار في وقت سابق من هذا الشهر، جاء ذلك بعد نزوح ما يقربُ من مليون شخص في إدلب وتحذير وكالات الإغاثة من كارثة إنسانية غيرِ مسبوقة، لكنّ وقف إطلاق النار هنا لا يستمر أبداً.

بالنسبة للرئيس “بشار الأسد” تشكّل إدلب مصدرَ إزعاج يقف في طريقِ رغبتهِ في إعادة بسط سيطرته على البلاد وسحقِ الثورة التي قامت ضدّ حكمه. وبدعم من القوات الجويّة الروسية حاولت قوات النظام عبْرَ سلسلة من الهجمات الشرسة استعادة السيطرة على المنطقة وذلك في بداية كانون الأول الماضي.

يتصدّى لهذا الهجوم الآلاف من المقاتلين المعارضين، حيث أرسلت تركيا التي تدعم بعض الجماعات الثائرة آلاف القوات إلى إدلب في شباط لمنعِ الهزيمة النهائية للمعارضة ووقفِ تقدّم النظام، الأمر الذي من شأنه أنْ يسبّبَ في إرسال مئات الآلاف من اللاجئين عبْرَ الحدود التركية.

من بين المقاتلين هناك ملايين المدنيين السوريين الذين يواجهون صعوبات جمّة حيث يتدافعون للحصول على الطعام والمأوى، ويبحثون عن الأطباء ويهربون من الضرباتِ الجويّة المكثّفة لقوات النظام وروسيا، أولئك الذين ما زالوا على قيد الحياة يعيشون في بؤسٍ كبير حيث فرّوا إلى إدلب من أجزاء أخرى من سوريا متنقّلين من بلدة مُدمّرة إلى أخرى.

يقول السوريون وعمال الإغاثة أنّه في مخيمات مكتظة على الحدود التركية يلوح خطر آخر في الأفق وهو فيروس كورونا الجديد الذي انتشر في التجمعات، وقد كان “شردان” يفرّ من قوات النظام بدايةً في مدينة معرة النعمان جنوب إدلب أواخر العام الماضي، ليستقرَّ بعدها في أريحا على بُعدِ حوالي خمسة أميال جنوب مدينة إدلب حتى أعاده القصف العنيف على البلدة وعائلته إلى ما خلْفَ الطريق.

وقد تمكّن مقاتلو المعارضة من السيطرة على مدينة إدلب في العام 2015، ووضعها التدخل الروسي في مسار محفوف بالمخاطر، ومع سقوط المناطق التي يسيطر عليها الثوار في أجزاء أخرى من سوريا على يدِ قوات النظام ازداد الخطر وتمّ نقل السكانِ والمقاتلين المعارضين من تلك المناطق إلى إدلب، مما أدّى إلى تحويل المحافظة إلى ملجأ لخصوم الأسد وهدفٍ متكررٍ للغارات الجوية لقواته.

أفضى الاتفاق الذي تمّ بين روسيا وتركيا إلى إنشاء منطقة خفض تصعيد وأخرى منزوعة السلاح، الأمر الذي أوقِفَ مؤقّتاً هجوم قوات النظام، في حين اتهمت كلٌّ من أنقرة موسكو بعضهما بانتهاك الاتفاق المبرم، وواصل كلٌّ من النظام وروسيا العازمان على استعادة إدلب والمناطق المجاورة مهاجمة أهداف في المحافظة بما في ذلك المستشفيات والمنشآت المدنية الأخرى.

وقالت “دارين خليفة” وهي محلّلة سورية رفيعة المستوى في “إنترناشيونال”: إنّ “تركيا إما لعدم رغبتها أو قدرتها لم تقمْ بتقييد تأثير هيئة تحرير الشام، وهي جماعة متمرّدة كانت مرتبطة سابقًا بالقاعدة وتهيمن على محافظة إدلب، فعندما شنّت قواتُ النظام أولَ هجوم كبير لها على إدلب في نيسان من العام الماضي واجهت عشرات الآلاف من المقاتلين الذين يعتقدون أنّ هذه هي المعركة الأخيرة، “إذا استسلموا فمصيرهم الموت”، كما قالت “دارين”.

كما استهدف الهجوم السكان المدنيين الذين شملوا الأشخاص الذين لم يعيشوا في ظلّ الدولة منذ ثماني أو تسع سنوات، قالت: بالنسبة للكثيرين كانت العودة إلى الحياة في ظلّ حكم الأسد أمراً لا يمكن تصوّرُه، وقالت: “يعتقدون أنّ الأمر أشبه بالانتحار”، حيث لم تبذلْ قواتُ النظام أيَّ محاولة لإقناعهم بخلاف ذلك، بل مع تقدّمِ الجيش في إدلب خلال الأشهر القليلة الماضية، بدا عازماً على طردِ الناس من منازلهم.

كان الدمار واضحاً في بلدة الأتارب بريف حلب، حيث قام مقاتلون معارضون على دراجات نارية بالانتقال من المنازل المدمّرة في الشوارع المهجورة، استقر بعضُ سكانها في أماكن مجاورة في خيام أقيمت بشكلٍ غير مستقرٍّ على سفوح التلال الصخرية، في أماكن أخرى على الطرق السريعة في إدلب، حمل البدو حكايات عن المدن والبلدات المدمّرة، وسافر “إبراهيم أحمد السعيد” شمالاً مساء أمس من مدينة إدلب مع زوجته وأربعة أطفال على عربة صغيرة ذات ثلاث عجلات، مكدّسة بما يقارب ربعَ متعلقاته، فرشات، فرن، برّاد، أدوات ودراجة نارية.

كان قد فرّ قبل أسابيع من قوات النظام في جنوب إدلب، ووجِد مؤقتاً مأوى في الشمال بالقرب من الحدود التركية، ولكن مع وصول عائلات جديدة أصبحت خيمته مزدحمة للغاية، وعاد هو وعائلته إلى جنوب إدلب على عربات تجرّها الدواب الصغيرة، والتي يمكن أنْ تسير حوالي 24 ميلاً في الساعة، عندما وصل إلى المنزل استقبله جحيمُ القصف والغارات الجويّة، وهكذا بقي مع عائلته المكوّنة من أربعة أطفال على الطريق.

كانت “هدى فتح الله” (40 سنة) قد فرّت من منزلها عبْرَ سلسلة من القرى المجاورة في جنوب إدلب في الأشهر الأخيرة، قبلَ أنْ تستقرَّ في ملعب بمدينة إدلب مع سبعة من أفراد عائلتها، قالت: “تركنا كلَّ شيء”، مضيفةً أنّها لم تكنْ تعلم ما إذا كانوا سيتمكّنون من العودة إلى ديارهم مجدّداً، حيث “يرتبط مصير إدلب في أيدي المقاتلين ودول أخرى بعيدة”، وقالت “هدى” منهيةً حديثَها بعبارة: “نسأل الله الفرج”.

لقراءة المقال الأصلي (اضغط هنا)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى