قاضيةٌ فرنسيةٌ توضُّح آليةَ عملِ القضاءِ الدولي بخصوصِ جرائمِ الحربِ بسوريا
تسعى القاضيةُ الفرنسيةُ كاثرين مارشي أويل لجمعِ الأدلّة نيابةً عن الأمم المتحدة عن جرائمِ الحرب المرتكبة في سوريا بعد 11 عاماً من اندلاع الحرب، وأوضحتْ في لقاء مع صحيفة “تراو” الهولندية آلياتِ عملِها وفريقها في التوثيق واستخلاص الأدلّة وتقديمها لـ “الآلية الدولية المحايدة والمستقلّة” والمساعدة في 96 تحقيقاً في 13 دولةً مختلفةً.
وقالت القاضية الفرنسية كاثرين مارشي أوهيل: “الوضعُ في سوريا خطيرٌ لقد اُرتكِبت الجرائمُ منذ أكثرَ من عقدٍ، وعادةً ما يتمُّ إحالةُ مثلِ هذه القضية إلى المحكمة الجنائية الدولية”.
و طُلب بالفعل من المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، بما في ذلك من قِبل هولندا، التحقيقُ في الجرائم في سوريا، لكنَّ تلك الجهود فشلتْ مراراً وتكراراً بسبب استخدامِ روسيا والصين لحقِّ النقض في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.
وأشارت مارشي أوهيل إلى أنَّه تمَّ إنشاءُ المحكمة الجنائية الدولية على وجهِ التحديد لهذه الجرائمِ “لمحاكمة مرتكبي الجرائم ضدَّ الإنسانية وجرائم الحرب وحتى الإبادةِ الجماعية”.
وأعربت القاضية عن غضبها وإحباطها من “الحصار السياسي” الذي يمنع تعاملَ أيّ محاكم دولية مع الجرائم في سوريا.
وبحسب الصحيفة، إنَّ ذلك أحدَ الأسباب التي تقدّمت بها لشغل منصبِ رئيس الآلية الدولية المستقلّة والمحايدة المعنية بسوريا، والمعروفة باسم III-M والتي أسست في عام 2016 من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة.
وتركّز “الآلية الدولية المحايدة والمستقلّة” على جمعِ وتخزين وتحليل الأدلّة على الجرائم الدولية المرتكبة في سوريا منذ عام 2011، والهدفُ من ذلك هو المساعدة قدرَ الإمكان في محاكمة مرتكبي هذه الجرائمِ، وهولندا هي واحدة من الداعمين الرئيسيين لذلك.
وتعمل كاثرين مارشي أويل في القانون الدولي منذ أكثرَ من 25 عاماً، وعملت كقاضية في المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقةِ ومحاكم رواندا وكمبوديا، تقول عن الحروبِ: “إنَّها دائماً نفسُ المعاناة”.
وفي جوار مكتب القاضية في جنيف يتمُّ “العملُ الحقيقي” حيث لا يُسمح للأجانب بالدخول إليه لأسبابٍ أمنيّة، ويوجد فريقٌ من المحامين والباحثين والمحلّلين والمتخصّصين في الأدلّة الرقمية، ويتمُّ تخزينُ جميعِ الأدلّة حتى يمكنَ استخدامُها في المحكمة.
وبعد 11 عاماً من اندلاع الحرب في سوريا، باتت العدالةُ موجودةً بشكلٍ أساسي في المحاكم الأوروبية، وفقاً للصحيفة الهولندية.
وبموجب مبدأ “الولاية القضائية العالمية”، يمكن أيضاً مقاضاة الجرائمِ الدولية بموجب القانون الوطني، وهذا يُؤتي ثمارُه، بحسب مارشي أوهيل التي قالت إنَّه “تمَّ إحصاءُ 27 قضيةً أدينَ فيها أشخاص في ألمانيا وهولندا والسويد والمجر.. وهذه فقط الأشياءُ التي أدّت إلى حكمٍ”.
بعضُ الدول، بما في ذلك هولندا وفرنسا وألمانيا والسويد لديها فرقٌ خاصةٌ تتعامل فقط مع الجرائم الدولية، وأضافت القاضية: “هذا أمرٌ إيجابي للغاية. إنَّ عدداً من البلدان لديها مدعون عامون وقضاة أكفاء معتادون على التعامل مع هذه الأنواعِ من القضايا”.
حتى الآن، لعبتْ الأدلّةُ التي جمعتْها القاضيةُ وفريقها دوراً في أربع من هذه الإدانات، بما في ذلك القضيتان في كوبلنز، لكنَّ بعضَ القضايا لا تزال معلّقةً والبعضُ الآخر لم يؤدِّ إلى ملاحقة قضائية بعد التحقيق.
حتى الآن، قدّمت “III-M” أدلةً على 96 تحقيقاً في 13 دولةً مختلفة، وتجري اللجنةُ محادثاتٍ مع الدولةِ الرابعةِ عشرة حول التعاون.
عندما يأتي طلبٌ من وحدة شرطة أو محكمة، على سبيل المثالِ للحصول على معلومات حول شخصٍ معيّن أو حدثٍ معيّن، تبحثُ القاضية وفريقها عن الأدلّةِ ذات الصلة.
منذ أنْ بدأ تشغيل “III-M” في عام 2018 تمَّ جمعُ أكثرَ من مليوني وثيقةٍ في “خزنة رقمية آمنة”، بما في ذلك كميّة هائلةٍ من الأدلة الرقمية، كان العديدُ من السوريين يسجّلون على هواتفهم المحمولة، وتوجد ملايينُ الساعات من مقاطع الفيديو للحرب.
وقالت مارشي أوهيل، التي تحدّثت عن الحرب السورية باعتبارها الصراعَ الأكثر توثيقاً منذ الحربِ العالمية الثانية: “كل هذا جديد تماماً. هذا يعني أنَّه ليس عليك فقط العثورُ على تقنياتٍ لجمع هذه الأدلّةِ وتخزينها، ولكنْ أيضاً إدارتها، عليك أنْ تجدَ طريقةً للبحث في هذا الكم الهائل من الأدلةِ للعثور على الأدلّة ذات الصلة”.
وتقول القاضية “أنا لا أقولُ أنَّ لدينا كلَّ الحلول” حول الجانب الرقمي، لكن “III-M” تعمل مع المنظمات الأخرى التي تعمل على حلِّ مثلِ تلك المشكلاتِ المماثلة.
وتلعب المنظماتُ الحقوقية المعارضة دوراً رئيسياً في جمعِ الأدلةِ، على سبيل المثال، تمكّنوا من تهريب وثائقَ رسمية من سوريا ومشاركتها مع III-M.
وتقول القاضية: “من المستحيل القيامُ بهذا العمل دونَ إشراكِ المجتمع المدني الذي قام بهذا العمل بشجاعة لسنوات عديدة”.
وتتلقّى اللجنةُ أيضاً أدلةً من وكالات أخرى، مثل لجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة في سوريا، كما يجري الفريقُ مقابلاتٍ مع الضحايا والشهود.
بالإضافة إلى ذلك، تعملُ القاضية على ملفّاتٍ تتعلّقُ بأنواع محدّدة من الجرائم، وبالنظر إلى العددِ الكبير من الجرائم التي ارتكبت في سوريا على مدى العقدِ الماضي والأعداد المرتبطة بالجناة والفاعلين، يجب اتخاذُ الخيارات، وقالت مارشي أويل: “لا يمكنك أنْ تتوقّعَ بشكلٍ معقولٍ منا أنْ نحقّقَ في كلّ جريمة”.
وهناك الآن ثلاثُ ركائزَ، أو خطوط بحثٍ، تركّز عليها القاضية مارشي وفريقها: الأول هو المعتقلين حيث أنَّ أكثرَ من 100 ألفِ شخصٍ ما زالوا في عدادِ المفقودين في سوريا بعد اعتقالهم.
بالإضافة إلى ذلك، تحاول III-M بناءَ ملفٍّ يوضّح أنَّ التعذيبَ الذي حدثَ في السجون السورية لم يكن نتيجةَ حارس سادي فحسب، بل جزءاً من نظام أكبر.
ولهذا السببِ بالتحديد كانت الإدانةُ في كوبلنز مهمّةً للغاية، حيث حُكم في يناير/كانون الثاني الماضي، على ضابطِ مخابراتٍ سوري (أنور رسلان) هناك بالسجن المؤبّد بتهمةِ القتل والتعذيب كجرائم ضد الإنسانية.
وقالت مارشي أوهيل إنَّ هذا الحكم “يظهر أنَّه بينما تتعلّق قضية فردية بسجن معيّن فقط، فهي جزءٌ من هجوم واسع النطاق ضدّ السكان المدنيين”.
الركيزة الثانية من التحقيق هو الهجمات غيرِ القانونية، بحسب الصحيفة الهولندية التي تشير إلى أنَّ -الجرائمَ المروّعة التي ترتكب الآن في أوكرانيا كقصفِ مستشفى للأطفال في ماريوبول – مستمرّةٌ في سوريا منذ زمن.
وتتحدّث لجنةُ التحقيق التابعة للأمم المتحدة عن هجماتِ النظام السوري وحلفائه “التي تستهدف المستشفيات بشكلٍ متعمّدٍ ومنهجي”.
ومن أبرز الحلفاء روسيا، التي تقدّم الدعمَ الجوي لنظام الأسد منذُ صيف 2015، ولا تزالُ مستشفيات إدلب شمال سوريا تتعرّض للهجوم حتى الآن.
كما تُعتبرُ الهجماتُ بالأسلحة الكيماوية غيرَ قانونية، وأشار الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى استخدامَ الأسلحة الكيماوية على أنَّه “خطٌّ أحمرُ”، ولكن بعدَ هجومٍ كيماوي خارجَ العاصمة السورية دمشق مباشرةً أسفر عن مقتلِ 1400 في عام 2013، لم يكن هناك ردُّ عسكري من الغرب.
الركيزة الثالثة التي تحقّق فيها III-M هي الجرائمُ التي ارتكبها تنظيمُ تنظيم داعش، سيطرت تلك المجموعة على جزءٍ كبيرٍ من سوريا في عام 2014 وأدخلت قوانين متطرّفة صارمة، بما في ذلك العقاب البدني وقطع الرأس.
تأمل المحامية مارشي أويل ألا يتمَّ استخدامُ هذه الملفّات من قِبل المدعين المدعيين الوطنيين فحسب، بل يجب أنْ يتمَّ استخدامُها أيضاً في قضية أمام محكمة دولية، وتضيف “العملُ الذي نقوم به، أنا وفريقي، هو من أجل الضحايا والناجين من الجرائم في سوريا. عندما نرى كيف يعانون ومدى فظاعةِ هذه الجرائم، لا يمكننا أنْ نقبلَ أنْ تمرَّ دون عقاب”.
إمكانيةُ المحاكمة هي مبادرةٌ من هولندا اعتباراً من
أيلول 2020 لتحميل النظام السوري رسمياً المسؤولية عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان بموجب اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب، وسوريا أحدُ الدول الموقّعين عليها.
ولا تريد وزارةُ الخارجية الهولندية التعليقَ على سيرِ القضية، لكن “هذا الموقفَ قد ينتهي به المطافُ في محكمة العدل الدولية”، كما تأمل مارشي أويل.