إدلب.. الفصلُ الأخيرُ اللانهائي في الحربِ السوريةِ

تستعدّ روسيا وتركيا لتصعيد محتمل في حرب استنزاف بالوكالة في الإقليم الشمالي، لكنّهما يواجهان صعوبة في السيطرة على حلفائهما، على مدى السنوات التسع الماضية، تحوّلت محافظة إدلب وأطرافها من منطقة راكدة إلى خزان من الثوار الذين يقاتلون نظام الرئيس بشار الأسد، إدلب هي العمود الفقري للأهداف التركية في سوريا وساحة معركة لحرب بالوكالة مع روسيا، والتي يمكن أنْ تؤثّر نتيجتُها على التنافس المستمر بين القوى العظمى في الشرق الأوسط.

أولئك الذين حرثوا الأرض في إدلب قبل اندلاع المظاهرات السلمية ضدّ نظام الأسد في مارس 2011 لم يكن لديهم فكرة عن العنف والنزوح الذي سيتبع ذلك، بحلول نهاية العام أدّت حملة القمع الوحشية التي شنّتها القوات الحكومية إلى مقتل الآلاف من المدنيين، مما أدّى إلى ردّة فعلٍ عنيفة من الثوار السنة ضدّ النظام الذي يسيطر عليه العلويون.

أصبحت إدلب وغيرها من المناطق السنية النائية العمود الفقري للمعارضة المسلحة، تدعم أنقرة الآن آخر معقل للثوار ضدّ قوات النظام المدعومة من روسيا في المحافظة التي مزّقتها الحرب، منذ وقف إطلاق النار في مارس 2019، خاض الوكلاء الأتراك والروس حرب استنزاف في إدلب، مع عدم وجود حلٍّ دائمٍ يمكن أنْ يؤديََ التصعيد المتجدّد إلى تدخّلٍ مباشر من قِبل رعاتٍهم مرّةً أخرى.

في فبراير ومارس من هذا العام، اقتربت تركيا وروسيا من الحرب المباشرة في إدلب بعد أنْ ضغطت روسيا من أجل تحقيق مكاسب إقليمية، قالت أنقرة إنّها تجاوزت اتفاقي أستانا وسوتشي، لكن موسكو وتركيا عمدتا إلى حدٍّ كبير إلى معايرة علاقتهما بطريقة للحفاظ على نزاعاتهما الجيوسياسية في سوريا وفي ليبيا منفصلة إلى حدٍ كبير عن السعي وراء المصالح الاقتصادية المشتركة.

سيفيد فتحُ الطرق السريعة في إدلب كلا الجانبين لأنّه يمكن أنَ يعيدَ تنشيط حلقة رئيسية للشحن التجاري بين أوروبا والشرق الأوسط، لكنّ ذلك سيغيّر الديناميكيات المحلية لاقتصاد الحرب التي يديرها حلفاء البلدين على جانبي الطرق السريعة، ويحتمل أنْ يشعلَ مزيدًاً من الصراع، بالإضافة إلى قواعد دعم مزعزعة للاستقرار لكلا الطرفين.

الصورة معقدة تقريبًا بين حلفاء روسيا الذين ثبت صعوبة السيطرة عليهم، في الأشهر القليلة الماضية ظهرت خلافات عائلية بين الدائرة العلوية الداخلية علناً، مما أدّى إلى تعطيل ميزان القوى داخل نظام دمشق وإحراج روسيا، وأكّدت موسكو أنّ دعمها للأسد ينبع من وضعه كرئيس لدولة ذات سيادة مع مؤسسات عاملة.

كانت الميليشيات الشيعية التي تشرف عليها إيران تقوم بمعظم عمليات القتال الثقيلة في ساحات القتال، مما يجعلها تتقدّم بين المنظمات العسكرية والأمنية للنظام المرتبطة بروسيا، وتتيح لطهران الوصول إلى الأرض التي تفتقر إليها روسيا، خاض الوكلاء من البلدين على نفس الجانب لمحاولة السيطرة على مناطق المعارضة الأخيرة في إدلب، بينما كانوا يتنافسون على الغنائم في حرب لم يكسبوها بالكامل، تشمل المكافآت المعينة امتيازات الاتصالات السلكية واللاسلكية والنفط، بالإضافة إلى مشاريع البنية التحتية المحتملة.

وقد احتكر هذه القطاعات منذ فترة طويلة الملياردير رامي مخلوف، ابن خال بشار الأسد ورائد الدائرة الداخلية العلوية، ويقول بعض المراقبين إنّ روسيا كانت وراء خطوات في الأسابيع الأخيرة لإسقاط مخلوف، الذي كان يموّل ميليشيات مرتبطة بطهران وموسكو، لكنّ الممولين الإقليميين قالوا إنّه من السابق لأوانه تحديد سبب الصعوبات التي يواجهها السيد مخلوف، وقالوا إنّ سقوطه المحتمل قد يكون مرتبطاً بتداعيات كامنة على وفاة والدة بشار الأسد أنيسة قبل أربع سنوات، وبصفته البطريرك، أبقت أنيسة الخلافات العائلية على الثروة والسلطة من الغليان منذ أنْ ورث بشار السلطة من حافظ الأسد في عام 2000.

وفي حديثه أمام لجنة دولية الأسبوع الماضي، نفى نائب وزير الخارجية الروسي السابق أندريه فيدوروف التقارير التي تفيد بأنّ موسكو تريد أيضًاً استبدال الأسد، وقال السيد فيدوروف لمعهد قمّة بيروت إنّ استعادة إدلب أمرٌ حاسمٌ في إستراتيجية روسيا لدعم الأسد، وأشار إلى أنّ البديل سيكون وكيل إيراني، وقال فيدوروف: “من المؤلم للغاية أنْ تعترفَ روسيا في هذه المرحلة بالذات بأنّ إيران تسيطر أكثر فأكثر على سوريا على الأرض”.

وقال إنّه مع “عدم نجاح العملية السياسية”، كان الهجوم الروسي المتجدّد على إدلب حتمياً، وهو ما يفسر زيادة المساعدات العسكرية الروسية للنظام في الشهرين الماضيين، إذا لم يحدثْ هذا، إذا لم يتمّ مساعدة الأسد عسكرياً، خاصة الآن، فلن تحدثَ عملية عسكرية هجومية في إدلب، في هذه الحالة ستفقد روسيا الكثير من الأشياء في سوريا”.

حقّقت حملةٌ عسكرية دعمتها روسيا في الشمال الغربي في عام 2019 مكاسب مهمة، بحلول وقف إطلاق النار في مارس من هذا العام، قامت القوات الموالية بتدمير أجزاءً كبيرة من منطقة نفوذ تركيا في إدلب والمناطق الواقعة غرب حلب، وقالت مصادر معارضة سورية إنّ القصف الجوي الضخم الذي تدعمه روسيا والذي أودى بحياة المئات من المدنيين كان وراء التقدّمِ، لكن المكاسب الإقليمية لم تتحقّقْ إلا بعدَ انضمام حزب الله وميليشيات إيرانية أخرى تحت الإشراف، توقف الزخم الموالي في وجه هؤلاء المعارضين الذين أعيد تنشيطهم جزئيًا، وضخّت تركيا معدّات كبيرة وآلاف الجنود في إدلب وجدّدت الدعم للمتمردين المناهضين للأسد، وذلك بعد أنْ أصيبت تركيا بخسائر فادحة في جيشها، أطلقت مدفعية وطائرات بدون طيار ضدّ حزب الله وقوات النظام، مما ألحق خسائر فادحة.

في 5 مارس من هذا العام، اتفق الرئيسان أردوغان والرئيس فلاديمير بوتين في موسكو على وقفٍ لإطلاق النار يضفي طابعًاً رسميًاً على الجمود، أحبطت تركيا أهداف النظام المتمثلة في الاستيلاء على عاصمة محافظة إدلب والوصول إلى الحدود، وفتح الباب أمام احتمال حدوث أزمة اللاجئين الأكثر كارثية، أبقت القوات المدعومة من روسيا على بلدتي سراقب ومعرة النعمان، مما قلّل بشكلٍ كبير من وصول المعارضة إلى الطرق السريعة.

ومنذ ذلك الحين، تمّ التراجعُ عن وقفِ إطلاق النار بشكل متكرّرٍ، مع استمرار قصف النظام وهجمات الثوار الكرّ والفرّ طوال شهري مارس وأبريل، لكن طائرات النظام الحربية الروسية والنظامية ابتعدت في الغالب عن سماء إدلب، وتقع المحافظة التي تبلغ مساحتها ما يقرب من نصف مساحة لبنان المجاورة في بداية طريق نقل دولي يمتد لمسافة 1000 كيلومتر عبْر سوريا والأردن، تدفّقت معظم صادرات الحاويات البرية من تركيا وأوروبا إلى بلاد الشام والخليج العربي على طول الطريق قبل انتشار انتفاضات 2011، يمكن أنْ يكونَ إعادة الربط البري واستئناف رسوم الشحن والعبور وضعاً مربحًا لكلِّ من روسيا والنظام وتركيا والأردن، لكنّ إيران ستكسب القليل.

وتساءل محلّلون عما إذا كان دور إيران في الشمال الغربي قد يتآكل، خاصة مع تصاعد الضربات الجوية الإسرائيلية ضدّ أهداف مرتبطة بإيران خلال الأسابيع الأخيرة، قال الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله في خطاب مساء الأربعاء إنّ اسرائيل تستهدف مواقع تصنيع الصواريخ لكنّه نفى أنّها تدفع الحزب او إيران للخروج من سوريا، روسيا مرّة أخرى لم تبدِ أيَّ اعتراض على موجة الغارات الجوية الإسرائيلية، وقالت مصادر عسكرية معارضة إنّ الغارات ركّزت على حلب، مركز قيادة الميليشيات الإيرانية في إدلب.

جادل “أيمن عبد النور”، وهو محلّل سياسي سوري بارز، في مقال نشر في مجلة فورين بوليسي هذا الشهر بأنّ وقفَ إطلاق النار المتهالك في إدلب يمثّل فرصةً أمام دونالد ترامب للضغط من أجل حلٍّ سياسي شامل استعصى حتى الآن على موسكو وأنقرة، وقال “عبد النور” إنّ الولايات المتحدة يمكن أنْ تقدّم بسرعة “كلا البلدين – وخاصة روسيا – مسارات لحفظ ماء الوجه من قتال لم يعدْ بوسعهما تحمله”.

وصرّح لصحيفة ذا ناشونال أنّه إذا لم تتدخلّ الولايات المتحدة “فإنّ الوضع الراهن سيظلّ غيرَ مستقر” وأنّ روسيا وتركيا لن تُعطيا الفوائد الاقتصادية التي تأملان في سوريا، وقال “عبد النور” من المنفى في الولايات المتحدة: “حتى لو تمّ فرضُ حلٍّ سياسي رمزي، فإنّ مجالات نفوذ القوى الخارجية ووكلائها لن تختفيَ”.

منذ عام 2011، تضاعف عددُ سكان إدلب إلى أكثر من 3 ملايين نسمة بسبب تدفّق النازحين السنة، الذين فرّ معظمهم من منازلهم في أجزاء أخرى من البلاد هرباً من قصف النظام وهجماته، مع إغلاق الحدود التركية، صوّت الكثيرون بأقدامهم للبقاء في إدلب على الرغم من تشجيع روسيا لاستخدام “الممرات الآمنة” لمناطق النظام، إنّهم يعرفون أنّ الحلَّ السياسي الذي ينتج عنه مجرد عملية شدّ وجه للنظام لن يحسّنَ أوضاعهم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى